المدرسة الوضعية في تحديد المسئولية الجنائية |
عوامل نشأة المدرسة الوضعية
ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع مذهب جديد هو المذهب الوضعي الذي يذهب إلي تطبيق المنهج العلمي التجريبي علي الظاهرة الإجرامية. وكان ذلك امتداداً لتطبيق منهج الملاحظة والتجربة في دراسة السلوك الإنساني والعلوم الاجتماعية التي اعتمدت علي الدراسة الإحصائية للظواهر الاجتماعية بصفة عامة .
ويرجع الي الايطالي (لومبروزو) الفضل الأكبر في بداية حركة الإصلاح الوضعي الجديد ثم شاركه (رافائيل جاروفالو) و (انريكو فيري) فأرسوا قواعد نظرية الوقاية والحماية الاجتماعية أو الوضعية الجنائية، وعلة التسمية كما يقول فيري ليس لأن المدرسة تتبع نظاماً فلسفياً معيناً يشابه أفكار (أوجست كومت) ولكن لأنها تتبع منهجاً عماده الملاحظة والتجربة .
وقد بدأ (لومبروزو) فنشر تباعاً منذ 1874 مجموعة من الدراسات عن مرتكبي الجرائم ضمها بعد ذلك كتابه الشهير (الإنسان المجرم) وقد اتبع في دراسته منهج الملاحظة والتجربة مظهرا أوجه الشذوذ العضوي التي يتميز بها المجرمون عن الإنسان العادي .
ومن الوجهة العقابية فإنه لم يتجاوز الأفكار التقليدية في العقوبة كدفاع اجتماعي يحقق الردع العام.
وقد أعقب ذلك أن نشر القاضي (جاروفالو) دراسة عن (تخفيف العقوبات في جرائم الدم) ثم (دراسات عن العقاب) وثالثة عن ( معيار وضعي للعقاب ) وقد أودع في الدراسة الأولي ما أصبح فيما بعد مذهباً للمدرسة الوضعية إذ أعلن في وظيفة الجزاء الجنائي هي المنع الخاص، بالإضافة إلي المنع العام فإذا تعارضا كانت الغلبة للمنع الخاص اما أساس هذا الجزاء ووسيلة تحديده فمعياره هو خطورة الجاني ، ويقترن اسم (جاروفالو) بكتاب (علم الإجرام) وهدف الكتاب هو إقامة العلم الجنائي علي أساس تجريبي.
وفي عام 1878 أدلي (فيري) برأيه في دراسة عن نظرية (الإسناد المعنوي وإنكار حرية الاختيار) ويرجع له الفضل في معالجة الموضوع ليس من زاوية منطقية مجردة بل باستخدام العلوم التجريبية التي سادت حينئذ الدراسات الاجتماعية والنفسية .
وقد نادي بأن مبدأ حرية الاختيار ليس إلا وهماً تصوره فقهاء القانون الجنائي التقليديون ، فالمسئولية الجنائية قائمة بالنسبة لكل من يرتكب جريمة أيا كانت حالته الذهنية والعقلية، ويجب أن تتحدد الإجراءات التي تتخذ بالنسبة لكل مجرم تبعاً لخطورته الإجرامية وليس وفقاً لدرجة جسامة الجريمة ، كما طالب (فيري) باستبدال العقوبة بمعناها التقليدي بتدابير الدفاع الاجتماعي وذلك بالنسبة لبعض طوائف المجرمين .
الأسس الفكرية للمدرسة الوضعية :
تنهض تعاليم هذه المدرسة بصفة أساسية علي رفض مبدأ حرية الاختيار الذي نادت به المدرسة التقليدية - الأولي والثانية- واعتناق مبدأ الحتمية في السلوك الإنساني ، وبالتالي فالمجرم ليس حراً في تصرفاته بل هو مسير شأن الإنسانية كلها ، ويترتب علي ذلك أن الجاني لا يسأل عن جريمته مسئولية أخلاقية . وانما مسئولية اجتماعية .
ويستتبع هذا الأمر اتخاذ تدابير احترازية تتجرد من معني اللوم الأخلاقي ، تتناسب مع نوع ودرجة الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص الجاني ، ويستوي في ذلك كامل الأهلية وناقصها وفاقدها .
فالغرض من هذه التدابير إصلاح الجاني مستقبلاً دون محاسبته عما مضي ، مما يتطلب إصلاح وتأهيل المجرم وذلك علي التفصيل الآتي :
أولاً : احلال المسئولية الاجتماعية أو القانونية محل المسئولية الاخلاقية :
تؤمن المدرسة الوضعية بان الإنسان المجرم ليس حراً في تصرفاته بل هو مسير شأن الإنسانية كلها ، فالجريمة ليست إلا نتاجاً لعوامل داخلية وخارجية لا يملك الإنسان حيالها أدني قدر من الحرية .
فقد أكدت دراسات (لومبروزو) إن هناك أفراد يدفعهم إلي الجريمة شذوذ تشريحي بيولوجي وظيفي مصدره عيب وراثي مجهول ,
أما (فيري) فقد فسر الحتمية البيولوجية لعوامل خارجية محيطة بالفرد كالظروف الطبيعية والاجتماعية.
واذا ثبت إن الإنسان في توجهه في تصرفاته وسلوكه قوي داخلية وخارجية حتمية وجب إذن استبعاد فكرة المسئولية الأخلاقية التي قوامها حرية الاختيار والخطأ كما يتصورها أقطاب المدرسة التقليدية ، وأن تحل محلها فكرة المسئولية الاجتماعية التي قوامها ان كل شخص يرتكب جريمة يعتبر مسئولاً سواء توافر لديه الإدراك أو التمييز وام لحقه عارض من عوارض الأهلية باعتباره مصدر خطورة إجرامية غلي المجتمع الذي يجب أن يدافع عن نفسه ، وتستتبع هذه المسئولية إنزال تدبير احترازي يتجرد من اللوم الأخلاقي لدرء هذه الخطورة الكامنة في شخص المجرم والتي أفصحت الجريمة عن توافرها.
وبناء علي هذه الفكرة تضع المدرسة الوضعية فكرة الخطورة كأساس ومعيار للنظام الجنائي ، كبديل عن المسئولية الأخلاقية ، فلم يعد لانعدام الإرادة وحرية الاختيار محل في نظرها ، فكل مجرم يعد مصدرا للخطورة ، ومن اللازم اتخاذ التدابير في مواجهته ، ولذا فإن القاعدة القديمة التي تقضي بأنه لا عقوبة إلا بنص قد استبدل بها مبدأ (لا تدبير وقائي بدون خطورة)
ثانياً : التدابير الاحترازية هي وسيلة دفاع المجتمع ضد الجريمة :
ترتب علي إنكار أقطاب المدرسة الوضعية للمسئولية الاخلاقية واعتناقها لفكرة المسئولية الاجتماعية ظهور مفهوم واقعي للدفاع الاجتماعي يعني حماية المجتمع من الاتجاهات الخطرة للمجرم ووسيلة ذلك الوحيدة هي التدابير الفنية والنفسية والاجتماعية وهي ليست عقوبات تستهدف الزجر والإيلام وإنما وسيلة اجتماعية تستهدف الوقاية والعلاج .
وعلي ذلك فإن التدابير الاحترازية لم تعد مقياساً لجسامة الفعل ويتم تحديدها مقدماً ، وإنا أصبحت وسيلة تتلاءم مع شخصية المجرم وتفصح عنه من خطورة غلي المصالح المشروعية علي أساس أن الشخصية الفردية هي الأساس الذي يقرر نوع المعاملة الملائمة للمجرم وليس الواقعة الإجرامية .
ويقسم أقطاب هذه المدرسة التدابير الاحترازية إلي طائفتين وكلاهما يواجه نوعاً معيناً من الخطورة وهما :
1) التدابير الوقائية أو المانعة
أو البدائل العقابية كما يسميها فيري ويقصد بها اتخاذ إجراءات كفيلة بالقضاء علي العوامل الإجرامية الهامة مثل مكافحة السكر والبطالة والتشرد ، وقد أوضح فيري رأيه بتشبيه شهير إذ يقول بأن الطريق المظلم ليل يكون مسرحاً لعدد من الجرائم وللقضاء عليه يكفي بأن يضاء الطريق ، فذلك أجدي وأوفر للدولة من أن تخصص له عدداً متزايداً من رجال الشرطة وتعد مزيداً من السجون .
كما أن التدابير الوقائية يتسع مفهوما ليشمل مواجهة الحالات الفردية الخطرة أي السابقة علي وقوع جريمة بالفعل وتفصح عن ميل إجرامي كحالتي التشرد والاشتباه .
2) تدابير الدفاع والأمن
وهي عبارة عن مجموعة من التدابير لمواجهة حالات الخطورة الناجمة عن جريمة ، وتتعدد هذه التدابير وتختلف ، فقد تكون استئصالية كالإعدام ، أو عازلة كالسجن مدي الحياة أو علاجية كالإيداع في دار للاستشفاء العقلي ،أو اجتماعية متنوعة كحظر الإقامة في مكان معين أو الإلزام بعمل معين أو حظر ممارسة عمل ما ، إلي غير ذلك تبعاً لظروف كل حالة .
تقييم المدرسة الوضعية:
لا يستطيع احد ان ينكر فضل المدرسة الوضعية علي الدراسات الجنائية ، فقد طبقت عليها الأساليب التجريبية وخلقت بذلك علم الإجرام وهي التي ابتكرت نظرية التدابير الاحترازية التي أضحت ذات دور كبير في السياسة الجنائية المعاصرة . وأرست في الوقت ذاته نظرية الخطورة الاجرامية التي تعد أساساً لتوقيع هذه التدابير ، كما أنها وجهت العناية إلي تصنيف المجرمين في مرحلتي التشريع والقضاء فدعت بذلك إلي التفريد العقابي وهي التي أظهرت أهمية التدابير المانعة قبل ارتكاب الجريمة.
ومع ذلك فهذه المدرسة معيبة من عدة نواح نجملها فيما يلي:
- انها بإنكارها لحرية الاختيار لدي الجاني قد أغفلت إرادة الإنسان ، والمساواة بينه وبين غيره من المخلوقات المتجردة من كل وعي أمر غير مقبول.
- اعتمد أقطاب المدرسة وخاصة لومبروزو في تأسيس آرائهم علي ملاحظات تجريبية لم يثبت التطبيق العملي صحتها في كل الفروض فكثي من الاشخاص الذين بدت فيهم الصفات العضوية المميزة للمجرم بالفطرة كما قال بها لومبروزو لم يرتكبوا قط أي جرائم كما وقعت أخطر الجرائم من اشخاص لم تكن بهم تلك العلامات أو الصفات.
- جعلت المدرسة الوضعية من الردع الخاص غرضاً للعقوبة وهذا ينطوي علي تجاهل لما يسود المجتمع من قيم للوظيفة التربوية للقانون.
- منطق هذه المدرسة قادها إلي القول بوجوب انزال التدبير الاحترازي لمجرد توافر الخطورة الإجرامية ولو لم يقدم صاحبها علي ارتكاب أي جريمة ، وهو أمر من شأنه أن يفتح الباب علي مصرعيه لانتهاك حريات الأفراد ويهدر مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات مما يعود بنا إلي عهد التحكم الذي عانت البشرية منه.